فصل: مسألة توبة القاتل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة تقليد المرأة الهدي وإشعارها إياه:

في تقليد المرأة الهدي وإشعارها إياه وسئل مالك عن رأي ابن شهاب في المرأة تقلد وتشعر، قال مالك أراه خطأ لا يقلد ولا يشعر إلا من ينحر وإني لأحب للمرء أن يتواضع لله ويخضع له ويذل نفسه. كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينحر بدنه، وإن ناسا يأمرون من يذبح لهم، يريد بذلك أهل الطول ويعيب ذلك عليهم. فقيل له يا أبا عبد الله فلو أن امرأة اضطرت إلى أن تأمر جاريتها تقلد وتشعر، قال مالك إن اضطرت رأيت ذلك مجزئا، ولا أرى للمرأة أن تقلد ولا تشعر وهي تجد رجلا يقلد لها ويشعر.
قال محمد بن رشد: لما نحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدنه بيده ولم ينحر أزواجه عن أنفسهن بل نحر هو عنهن كان في ذلك ما قد دل على أن المرأة لا تذبح ولا تنحر إلا أن تضطر إلى ذلك. والتقليد والإشعار من ناحية النحر فلا ينبغي للمرأة أن تفعل شيئا من ذلك إلا من ضرورة، فإن فعلته من غير ضرورة كانت قد أساءت وأكلت ذبيحتها، وهذا ما لا اختلاف فيه أحفظه، وبالله التوفيق.

.مسألة النفل من الخمس:

في أن النفل من الخمس قال مالك: بلغني أن الناس كانوا يعطون من الخمس، يعني النفل، قال ابن القاسم قال مالك إنما ينفل من الخمس ولا ينفل أحد من رأس الغنيمة.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه. أن النفل من الخمس، لأن الأربعة الأخماس للغانمين، والخمس مصروف إلى اجتهاد الإمام. وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا، فقيل إنه لا ينفل إلا من بعد الخمس من الأربعة الأخماس، لأن الخمس عندهم قد صرفه الله إلى المذكورين في الآية فلا يخرج عنهم منه شيء؛ وقيل إن للإمام أن ينفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمسها، ولا يرى مالك رَحِمَهُ اللَّهُ للإمام أن ينفل قبل القتال لئلا يرغب الناس في العطاء فتفسد نياتهم في الجهاد، فإن وقع ذلك مضى للاختلاف الواقع وللآثار المروية فيه.
وأما سلب القتيل فقيل إنه لا يكون للقاتل إلا أن ينفله الإمام إياه إما من الخمس وإما من رأس الغنيمة وإما بعد تخميسها على ما ذكرناه من الاختلاف فيما سوى السلب، وقيل إنه للقاتل حكم من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحتاج فيه إلى استئناف أمر من الإمام؛ وقيل: إنه للإمام يخمسه ولا يكون له منه إلا أربعة أخماسه. وقد قيل إن الإمام لا ينفل إلا من خمس الخمس، وهذا يرده «حديث ابن عمر في السرية التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا» وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قول الله عز وجل فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا:

في تفسير قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] قال مالك في قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] قال: القوة على الأداء.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في الخير الذي عناه الله عز وجل بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ما هو، فقالت طائفة: المال، وقالت طائفة: القوة على الأداء وهو قول مالك، وقالت طائفة: الأمانة والدين، وقالت طائفة الصدق والوفاء. وهذه الأقاويل كلها متقاربة في المعنى، وذلك على الندب والإرشاد. وكذلك قول الله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] هو على الندب لا على الوجوب، ومعناه عند مالك أن يضع عنه من آخر كتابته شيئا يتعجل به عتقه.
والذي يدل عليه أنه غير واجب أن الله لم يحد فيه حدا في كتابه ولا على لسان رسوله، ولو كان فرضا لكان محدودا، لأن الفروض لا تكون غير محدودة بكتاب أو سنة، فلما لم يحد ذلك في الكتاب ولا ثبت فيه خبر مرفوع عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دل ذلك على أن الناس يؤمرون بذلك ولا يجبرون عليه بالحكم كالمتعة.. وقد قال بعض الناس: يوضع عنه الربع من كتابته، وقائل هذا القول يرى ذلك واجبا، واختار بعض الناس أن يضع عنه آخر نجم من نجومه. ومنهم من رأى أن يعطيه من سأله من غير الكتابة. وقد قيل إن الخطاب في ذلك إنما هو للولاة أن يعطوهم من الزكاة لا للسادة، لقول الله عز وجل: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]. وقد قيل أيضا إن الخطاب لجميع الناس أن يعينوهم من أموالهم، وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أعان مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله». وبالله التوفيق.

.مسألة بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة بسرف:

في أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما بنى بميمونة بسرف قال مالك: بنى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بميمونة في الثلاثة الأيام أيام القضية، فأبت قريش أن يقروه يبني بها بمكة فبنى بها بسرف.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إنما بنى بها بسرف في عمرة القضاء عام سبعة وهو بالمدينة قبل أن يخرج على ظاهر ما في حديث الموطأ من «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة قبل أن يخرج» وقيل بعد أن خرج قبل أن يحرم. وإن قوله في الحديث ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة قبل أن يخرج إنما يعود على بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياهما لا على التزويج، وقيل: بعد أن أحرم وهو محرم على ما روي عن ابن عباس، وقيل بعد أن حل من إحرامه على ما روي «عن ميمونة أنها قالت: تزوجني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسرف». وإنما بنى بها بسرف لأنه لما أقام ثلاثا على ما كان قاضى عليه أهل مكة أتاه حويطب ابن عبد العزيز في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم فصنعنا لكم فحضرتموه فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبنى بها بسرف. وبالله التوفيق.

.مسألة تأويل الرجل ما يخبر به على أحسن وجوهه:

في تأويل الرجل ما يخبر به على أحسن وجوهه قال مالك: وبلغني عن ابن مسعود أنه قال: إذا حدثتم بحديث فظنوا به أحسنه.
قال محمد بن رشد: هذا الذي ينبغي لكل من حدث عن أحد بشيء أن يفعله، فقد قال عمر بن الخطاب: لا يحل لمن يسمع من أخيه كلمة أن يظن فيها سوءا وهو يجد لها مصدرا في وجه من وجوه الخير، لأن تأويلها على ظاهرها من الشر ظن، وقد قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وبالله التوفيق.

.مسألة بركة الغزو:

في بركة الغزو قال مالك: إن رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد الغزو فقال له أهله لو أقمت فسقيت وديك وأصلحته فإني أخاف أن يموت، قال: فغزا وترك الودي على حاله، فأتى وقد صلح، قال فذكر له أهله، فقال الرجل الغزو يصلح الودي.
قال محمد بن رشد: قوله الغزو يصلح الودي، معناه أن الرجل لا يجد فقد شيء تركه لله، وبالله التوفيق.

.مسألة الطاعة لا تجب إلا بالمعروف:

في أن الطاعة لا تجب إلا بالمعروف قال مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن ابن شهاب أن شداد ابن أوس غطى رأسه فبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: إنما أخاف عليكم من قبل رؤسائكم الذين إذا أمروا بطاعة أطيعوا، وإذ أمروا بمعصية أطيعوا. إنما المنافق كحمل اختنق فمات في ربقه لا يعدو شره ربقه. قال الربق: الذي يجعل للخروف يمنع به الرضاع.
قال محمد بن رشد: شداد بن أوس هذا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأنصار ابن أخي حسان بن ثابت الأنصاري، قال فيه عبادة بن الصامت: كان شداد بن أوس ممن أوتي العلم والحلم، وقال أبو الدرداء: إن الله يؤتي الرجل العلم ولا يؤتيه الحلم ويؤتيه الحلم ولا يؤتيه العلم، وإن أبا يعلى شداد بن أوس ممن آتاه الله العلم والحلم. وبكاؤه من حذره على الناس طاعتهم لرؤسائهم في الطاعة والمعصية من الحلم الذي آتاه الله إياه، وتمثيله للمنافق بالحمل الذي يختنق في ربقه فيموت، من العلم الذي آتاه الله إياه، لأنه تمثيل صحيح، لأن المنافق يهلك باعتقاده فلا يتأذى به سواه، إذ لا يظهره كالخروف يموت بربقه إذا اختنق به، فلا يتأذى به سواه، وبالله التوفيق.

.مسألة الشرب قائما:

في الشرب قائما قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كانوا يشربون قياما رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قال محمد ابن رشد: روي «عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه نهى عن الشرب قائما» من رواية أنس بن مالك. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «زجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا شرب قائما» وكره ذلك جماعة من السلف. وقال إبراهيم النخعي: إنما كره الشرب قائما لداء يأخذ في البطن، ولم ير مالك رَحِمَهُ اللَّهُ بذلك بأسا إذ لم يصح عنده النهي والله أعلم، فبوب في موطئه باب شرب الرجل وهو قائم، وأدخل في الباب عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير أنهم كانوا يشربون قياما، وعن عائشة وسعد بن أبي وقاص أنهما كانا لا يريان بشرب الإنسان وهو قائم بأسا. ومن الحجة له على ما ذهب إليه ما روى الشعبي «عن ابن عباس قال: ناولت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إداوة من لبن فشربها وهو قائم». وروي عن النزال بن سبرة قال: «أتي علي بماء فشرب قائما فقال: إن ناسا يكرهون هذا، وإني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب قائما». وقد روي عن أبي هريرة والحسن الوجهان جميعا: الإباحة والكراهة. «وقال عبد الله بن عمر: كنا نشرب ونحن قيام ونأكل ونحن نمشي على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»-. وذهب الطحاوي إلى أن المعنى فيما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شربه قائما ونهيه عن ذلك أنه كان يشرب قائما إلى أن وقف على المعنى الذي من أجله كره الشرب قائما فنهى عنه إشفاقا منه على أمته وطلبا لمصالحهم، وليس قوله ببين، إذ قد يحتمل أن يكون نهى عن ذلك إشفاقا على أمته لما ذكر له أن ذلك يضر بهم، فلما تحقق أن ذلك لا يضر بهم شرب قائما ولم ينه عن ذلك، فقد كان هم أن ينهى عن الغيلة ثم لم ينه عنها لما ذكر من أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم شيئا.
وإذا احتمل أن يكون كل واحد من الحديثين ناسخا للآخر وجب أن يسقطا جميعا ولا يمتنع من الشرب قائما إلا بيقين على ما ذهب إليه مالك، وبالله التوفيق.

.مسألة ما يصاب به الرجل يكفر به عنه:

في أن ما يصاب به الرجل يكفر به عنه قال مالك: عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار «عن بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لولا شيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأحببت أن أموت، قيل وما هو؟ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من شيء يصاب به العبد إلا كفر عنه حتى يلقى الله وليست له خطيئة».
قال محمد بن رشد: يؤيد هذا حديث أبي هريرة عنه عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «ما يزال المؤمن يصاب في ولده وحامته حتى يلقى الله عز وجل وليست له خطيئة». ومن هذا المعنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من يرد الله به خيرا يصب منه» وبالله التوفيق.

.مسألة توقي الرجل من أن يظن به سوء:

في توقي الرجل من أن يظن به سوء قال مالك: بلغني أن ابن عمر بن الخطاب خلا بأمة ليطأها فرآه رجال فأتى بها إليهم فقال إنها جاريتي، فقالوا: يغفر الله لك يا أبا عبد الرحمن ومثلك يتهم؟ فقال: إنه يقع في القلب شيء. قال مالك: وذكر ذلك عمن هو خير، يريد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآه رجل مع صفية فقال: هي صفية. قال مالك: بلغني أن القاسم بن محمد قال: إني لأريد الحاجة إلى الموضع فما يمنعني منها إلا الموضع الذي أريدها فيه خوفا من أن يظن الناس بي ظنا سيئا. قال مالك: بلغني أن أبا بكر الصديق في الجاهلية صحبه رجل فقام وهو يسير معه حتى انتهى إلى موضع، فقال الرجل الذي استصحبه اعدل بنا إلى هذه الطريق، فقال: وما لهذه؟ قال: فيها مجلس قوم ونحن نستحيي أن نمر عليهم، فقال أبو بكر إن شيئا يستحيى منه لا أحب أن أتبعك فيه.
قال محمد بن رشد: في توقي الرجل من أن يظن به سوء وجهان:
أحدهما دفع المكروه عن نفسه بدفع الظنة عنه، والثاني دفع الإثم عن الظان به ظن سوء. فينبغي لمن اتهم بشيء وهو منه بريء أن يبين براءته لمن خشي أن يكون قد اتهمه. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما هي صفية على ما حدثت به من أنها جاءت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت ساعة ثم قامت تنقلب، وقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على رسلكما إنما هي صفية ابنة حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما، فقال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا». وبالله التوفيق.

.مسألة توبة القاتل:

في توبة القاتل قال مالك: بلغني أن ابن عمر سأله رجل قتل نفسا يريد بذلك هل ترى لي من توبة؟ فقال له ابن عمر: أكثر من شرب الماء البارد. فقيل لمالك: أي شيء أراد بقوله أكثر من شرب الماء البارد؟. قال: يريد بذلك أنه من أهل النار.
قال محمد بن رشد: جميع الذنوب تمحوها التوبة إن تاب قبل المعاينة بإجماع، لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8]، وعسى من الله واجبة؟
ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وإن لم يتب منها كان في المشيئة لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] إلا القاتل عمدا فإنهم اختلفوا في قبول توبته وإنفاذ الوعيد عليه على قولين: فذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وأن توبته مقبولة، وذهب جماعة منهم إلى أنه لا توبة له والوعيد لاحق به، فممن روي ذلك عنه ابن عمر على ما جاء في هذه الحكاية عنه، وعن ابن عباس وأبي هريرة، وزيد بن ثابت. روي أن سائلا سأل ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة عن من قتل رجلا مؤمنا متعمدا هل له من توبة؟ فكلهم قال: هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء. وإلى هذا ذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ لأنه روي عنه أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب.
ويؤيد هذا المذهب ما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا متعمدا». وذلك، والله أعلم، أن القتل يجتمع فيه حق الله تعالى وحق المقتول المظلوم. ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم، وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا أن يدرك المقتول قبل موته فيعفو عنه ويحلله من قتله طيبة بذلك نفسه. وكذلك اختلف أيضا في القصاص منه هل يكون له كفارة أم لا على قولين: وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في ذلك كله وما نزع به كل فريق منهم من الكتاب والسنة في كتاب الديات من المقدمات، وبالله التوفيق.

.مسألة المال الحلال يشوبه الحرام:

في المال الحلال يشوبه الحرام قال ابن القاسم قال مالك قال ابن هرمز: عجبا للمرء يرزقه الله المال الحلال ثم يحرمه من أجل الربح اليسير حتى يكون كله حراما.
قال محمد بن رشد: قوله ثم يحرمه من أجل الربح يريد من أجل الربح الحرام الذي هو ربا، مثل أن يكون له على رجل مائة فيؤخره بها على أن يأخذ منه مائة وعشرين. وقوله حتى يكون حراما ليس على ظاهره بأنه يحرم عليه جميعه ولا يحل له منه شيء، لأن الواجب عليه فيه بإجماع من العلماء أن يرد الربح الذي أربى فيه إلى من أخذه منه ويطيب له سائره، لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. وإنما معنى قوله حتى يكون كله حراما، أي حتى يكون كله بمنزلة الحرام في أنه لا يجوز له أن يأكل منه شيئا حتى يرد ما فيه من الربا، لأنه إن أكل منه قبل أن يرد ما فيه من الربا فقد أكل بعض الربا لاختلاطه بجميع ماله وكونه شائعا فيه. وكذلك على قوله لا يجوز لأحد أن يعامله فيه ولا أن يقبل منه هبة، لأنه إذا عامله فيه فقد عامله في جزء من الحرام لكونه شائعا فيه. وهذا هو مذهب ابن وهب من أصحاب مالك، وهو استحسان على غير قياس، لأن الربا قد ترتب في ذمته وليس متعينا في عين المال على الإشاعة فيه، فعلى ما يوجبه القياس تجوز معاملته فيه وقبول هبته، وهو مذهب ابن القاسم، وحرم أصبغ معاملته فيه وقبول هبته وهديته، وقال: من فعل ذلك يجب عليه أن يتصدق بجميع ما أخذ، وهو شذوذ من القول على غير قياس، وبالله التوفيق.

.مسألة لباس الثوب المعصفر بالزعفران:

في لباس الثوب المعصفر بالزعفران قال مالك: رأيت ابن هرمز يلبس الثوب بالزعفران. قال مالك: وبلغني أن عطاء بن يسار كان يلبس الثوبين الرداء والإزار بالزعفران، فإني لألبسه وأستحب ذلك وأراه حسنا، وللأشياء وجوه من ذلك السرف، فلا أحب السرف.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذا قبل هذا في رسم باع غلاما فلا وجه لإعادته هاهنا، وبالله التوفيق.

.مسألة إمساك المخصرة:

في إمساك المخصرة قال مالك: وكان عطاء بن يسار يمسك المخصرة، فقيل له: وما تفسير المخصرة؟ قال: يستعين بها، قال فالرجل إذا كبر لم يكن مثل الشاب يقوى بها عند قيامه. قال مالك: وقد كان بعض الناس إذا كان المطر خرجوا بالعصي يتوكئون عليها حتى إن كان الشباب ليستحبون عصيهم، فلربما أخذ ربيعة من بعض من يجلس إليه العصا فما تزال معه حتى يقوم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة فضل إطعام الطعام:

في إطعام الطعام قال مالك: كان ابن عمر لا يكاد يوصل إلى طعامه، فقيل له يا أبا عبد الله لم؟ قال: لتضايق الناس عليه وكثرة من يغشاه، ولقد نزل يوما بالجحفة فأتى صبي أسود أغلف عريان سائل فسأله، فقال اقعد فكل، قال فدار فلم يجد موضعا لتضايق الناس على الطعام، فلما رأى ذلك منه ابن عمر دعاه فألصقه إلى صدره، فقال له كل، قال فزعم الذي حدث قال فلقد رأيته ولقد لصق إلى بطنه.
قال محمد بن رشد: إطعام الطعام من أفعال الأبرار، قال الله عز وجل: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 5] {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] إلى قوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22]. وإطعام ابن عمر الطعام من بعض فضائله، فلقد كان من فضلاء الأخيار المجتهدين الأبرار، وبلغ من السن سبعا وثمانين سنة، وأفتى الناس ستين سنة، وحج ستين حجة، وأعتق ألف رقبة، وحبس ألف فرس، واعتمر ألف عمرة، وكان لا ينام من الليل إلا قليلا، وبالله التوفيق.

.مسألة السلام على أهل الذمة والرد عليهم:

من سماع أشهب بن عبد العزيز من مالك من كتاب الجامع قال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك بن أنس عن السلام على أهل الذمة والرد عليهم، فقال: لا.
قال محمد بن رشد: منع في هذه الرواية من أن يسلم على أهل الذمة أو يرد السلام عليهم. فأما منعه أن يسلم عليهم فالوجه أن السلام تحية وإكرام، وقد قال الله تعالى فيه: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]، فيحب ألا يكون الكافر أهلا لها، هذا من طريق المعنى. وقد جاء في ذلك الأثر أيضا، روي عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إني راكب غدا إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم». وقد روي أيضا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله بمعناه من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة.
وأما منعه في الرواية من الرد عليهم، فالمعنى في ذلك ألا يرد عليهم كما يرد على المسلمين، وأن يقتصر في الرد عليهم بأن يقول وعليكم كما جاء في الحديث، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقل عليك» كذا قال في الموطأ: عليك بغير واو، وفي غير الموطأ: وعليك- بالواو- والذي ينبغي في هذا أن يقول في الرد عليه بغير واو. وإن تحققت أنه قال في سلامه السام عليك وهو الموت، أو السلام عليك- بكسر السين- وهي الحجارة، وإن شئت قلت: وعليك- بالواو- لأنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا على ما جاء عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، روي «عن عائشة أن اليهود دخلوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا السام عليكم فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم، فقالت عائشة: السام عليكم ولعنة الله وغضبه يا إخوة القردة والخنازير، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عائشة عليك بالحلم وإياك بالجهل، فقالت: يا رسول الله أما سمعت ما قالوا؟ فقال: أما سمعت ما رددت عليهم فاستجيب لنا فيهم ولم يستجب لهم فينا». وإن لم تتحقق ذلك قلت وعليك- بالواو- لأنك إن قلت عليك بغير واو وكان هو قد قال السلام عليكم كنت قد نفيت السلام عن نفسك ورددته عليه. ومن أخطأ فسلم على اليهودي أو النصراني ابتداء فلا يستقيله، قال ذلك في الموطأ، ومعناه أنه لا يلزمه أن يقول له أخطأت في سلامي عليك فلا تظن أني قصدتك بسلامي وأنا أعلم أنك لست بمسلم، فسمى ذلك استقالة لأنه إذا فعل ذلك فقد رجع في إكرامه له بالسلام وبطلت غبطة الذمي بذلك.
وقد قال الداودي إنه لا يستقيله من أجل أنه لا يلحقه بسلامه عليه بركة فيسأله أن يرد ذلك عليه، وليس ذلك بشيء. وقد قيل إنه يقال في الرد على الذمي عليك السلام- بكسر السين- وعلاك السلام أي ارتفع عنك. ومن أهل العلم من أجاز أن يبدأ أهل الذمة بالسلام، وهو خلاف ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالله التوفيق.

.مسألة الخضاب بالسواد:

في الخضاب بالسواد وسئل مالك عن الخضاب بالسواد، فقال: ما علمت فيه النهي، وغيره أحسن منه.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم حلف ألا يبع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة والي اليتيم هل يأكل من مال يتيمه:

في والي اليتيم هل يأكل من مال يتيمه؟ وسئل مالك عن اليتيم يكون عند الرجل وله مال وكرمات أيأكل من ماله؟ قال: لا يأكل من ماله، فأما الفاكهة فهذا خفيف. قيل له: إبل يقوم عليها أينتفع بظهرها ويشرب من لبنها؟ قال: لا ينتفع بظهرها، فأما أن يشرب من لبنها فلا بأس بذلك، وذكر الحديث الذي جاء عن ابن عباس قال: إن كنت تليط حوضها.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء عن ابن عباس هو قوله للذي سأله هل يشرب من لبن إبل يتيمه: إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب. واتفق أهل العلم جميعا على تحريم أكل مال اليتيم ظلما وإسرافا وعلى أن ذلك من الكبائر، لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وقوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] واختلفوا في القدر الذي يجوز للأوصياء من ذلك ويسوغ لهم لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] فذهب مالك وأصحابه-
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- إلى أنه لا يجوز للوصي أن يأكل من مال يتيمه إلا بقدر اشتغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه إن كان محتاجا إلى ذلك. قال محمد بن المواز في كتابه عمن حكاه عنه من أهل العلم على ما جاء عن عبد الله بن عباس في الحديث المذكور فوق هذا.
وأما إن كان غنيا عن ذلك فلا يفعل لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] وقيل إن للغني أن يأكل منه بقدر قيامه عليه وخدمته فيه وانتفاع اليتيم به في حسن نظره له، فإن لم يكن له في ماله خدمة ولا عمل سوى أنه يتفقده ويشرف عليه لم يكن له أن يأكل منه إلا ما لا ثمن له ولا قدر لقيمته، مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه على ما قاله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا، ومثل الفاكهة من ثمر حائطه على ما قاله في هذه الرواية، ولا يركب دوابه ولا ينتفع بظهر إبله ولا يتسلف من ماله. ومن أهل العلم من ذهب إلى أن لوالي اليتيم إذا كان فقيرا أو احتاج أن يأكل من مال يتيمه بغير إسراف ولا قضاء عليه فيما أكل منه، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. واختلف في معنى ذلك فقيل هو أن يأكل من ماله بأطراف أصابعه ولا يكتسي منه؛ وقيل: هو ما سد الجوع ووارى العورة، ليس لبس الكتان ولا الحلل؛ وقيل هو أن يأكل من ثمره، ويشرب من رسل ماشيته لقيامه على ذلك، وأما الذهب والفضة فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض؛ وقيل: إن له أن يأكل من جميع المال وإن أتى على المال ولا قضاء عليه، وقيل: معنى قوله عز وجل: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] هو أن يأخذ من ماله قدر قوته قرضا، فإن أيسر بعد ذلك قضاه، وروي هذا القول عن سعيد بن المسيب، وروي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيته، وبالله التوفيق.